هذا المنبر الثقافي المقدسي

هذا المنبر الثقافي المقدسي

(كلمة استهلال)

إبراهيم العجلوني

ليست “القدسُ” مجرّد مدينة عريقة ذات منازل وجادّات وأسوار، صمدت لرياح التاريخ وتقلُّبات الأزمنة، منذ ابتناها العرب اليبوسيّون إلى يوم الناس هذا، ولكنّها مهوى أفئدة ومُستراد أرواح، ناهيك بها مسباراً لعروبة العربي وإسلام المسلم وإنسانية الإنسان.

ولقد توافقت إرادات عددٍ من مثقي أمّتنا على أن تكون للقدس هذه المنصّة، وأن يقومَ لها هذا المنبر، نِشداناً لتوكيد عروبتها الضاربة في أعماق الدهر، وإسلامها الحنيف السّمْح في مدى أربعةَ عَشَر قرناً، ثمّ تبياناً لحقيقة أنها –بعد مكّة والمدينة- هي ثالثة العواصم الروحيّة للعرب والمسلمين، وأنّه قد اختلفَ إليها وعاش فيها النُّخَب المتميزة من علماءِ الإسلامِ وحُماته، حتى صارت رمزاً للجهاد بالسيف والقلم، واختباراً للإيمان ومضماراً للمروءات، وحتى صارت هي الميزان الذي لا ينبغي أن نُخْسِره في معرفة الرجال، وهي الامتحانُ الذي يكرم العربي فيه أو يهان..

وهي، إلى ذلك مرآةُ ما في زمننا هذا من خرائب الضمائر أو عمرانها، ومن تكريمِِ الإنسانيّة أو نُكرانها..

وإنّ ما نطمحُ إليه أن يستقطب هذا المنبر العلمي “المقدِسي” عدداً كبيراً من العلماءِ والمؤرخين والمفكّرين والأدباء والمبدعين، وأن يكون مرآةً لوعي الأُمة وانتباهها اليَقظِ إلى أكثر قضاياها قداسةً، وأوضحها حقّاً وعدالةً، وأدعاها إلى اجتماع الرأي ومضاءِ العزيمة ونفاذِ البصر والبصيرة..

إن هذا الذي نبدؤه اليومَ باسم الله في هذه الهيئة المنذورة لأولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين “مركز دراسات القدس” لهو استجابةٌ حضاريّةٌ لمطالبَ موضوعيّةٍ، علميّة وثقافية وتاريخية، أملاها ما نراه استفاضَ من جحود الحقّ ونُكران الحقيقة من جهة، ومن غيبة الوعي على حقائق قُدسنا العربيّة منذ الألف الرابع قبل الميلاد إلى ساعتنا هذه من جهة أخرى، وإنّها لحقائق لا تملك الصهيونية ولا الاستعمار القديم الجديد لها دفعاً؛ على كثرة ألوان التلبيس والتدليس التي يحاولون بها خداع العالمين..

إن مما نطمئن إليه وقد تبدّت هشاشة دعاوى الصهيوينة التاريخيّة، وتبيّن تهافتها حتى لدى ما يسمّونهم “المؤرخين الجدد” في الكيان الغاصب؛ أنّ “حقائقنا” قائمة بذاتها يتنوّرها كل ذي عقل وضمير، وأنها تحظى بشهادة العلم والتاريخ على حد سواء، وأنّها بسببٍ من ذلك كفيلة بوضع المسألة الفلسطينية (والقدسُ هي رمزها) في نصابها الحق الذي لا يتمارى فيه مُنصِفان.

إننا إنما ندشن هنا ، باسم “القدس” منبراً ثقافياً علمياً، نحن على أوثق الثقة وأشد اليقين، أن ستتداعى إليه طلائع الوعي في أمتنا، وستأخذُ بناصِرهِ، وسيكون لنا من ذلك ما يشُدُّ العَضُدَ ويُحِدُّ البصيرة…

وبالله وحده التوفيق..