أسماء القدس وجماليات الدلالة

أسماء القدس وجماليات الدلالة

·       د. زياد أبولبن

قلّة قليلة من تناول القدس في الشعر العربي القديم، وإن اختلفت أسماؤها، فيأتي كتاب “القدس والقصيدة العمودية القديمة: جدل الاسم وجمال الدلالة” للدكتور عبدالحميد المعيني، ليميط اللثام عن ثلاثة قرون متداخلة متتابعة ما قبل العصر الجاهلي حتى بدايات العصر العباسي، ويكشف عن اسم القدس وتسمياتها واشتقاقات أساميها في القصيدة العربية العمودية القديمة، ويرى الباحث أنه “قد وقر في الأذهان أن اسم القدس لم يكن موجوداً في الجاهلية، ولا في القرون والعصور الإسلامية الأولى”، ولعلمنا من خلال الدراسات والبحوث التي تناولت القصيدة العربية لا يوجد بين يدينا إلا القصيدة العمودي، فعنوان الكتاب يقف على “القصيدة العمودية القديمة”، وقد يوحي للقارئ أن هناك قصيدة غير عمودية، وإن العرب قد عرفوا في تلك الحقب القديمة شكلاً أخر للقصيدة!

وقد ورد في مقدمة الكتاب أن “في القدس أهم المعالم الدينية والأماكن المقدسة ودور العبادة عند المسلمين والمسيحيين” (ص8)، ولم يشر الباحث إلى دور العبادة عند اليهود، فإذا كان صراعنا الوجودي مع ما يسمّى بدولة إسرائيل، فهو صراع سياسي باحتلال أرض فلسطين، وليس صراعنا صراعاً دينياً مع اليهود في طقوسهم الدينية في المعابد، ففي القدس دور عبادة للمسلمين والمسيحيين واليهود.

يدحض الباحث آراء المؤرخين العرب الذين ذكروا أن القدس سميت بهذا الاسم من بداية القرن الثالث الهجري، أو أن أول من ذكر اسم القدس الشريف هو يحيى بن سعيد الأنطاكي، أو أن اسم القدس لم يكن متداولاً في صدر الإسلام والعصر الأموي، وإن أول من استعمل اسم القدس هو مجير الدين الحنبلي صاحب كتاب “الأنس الجليل في تاريخ القدس والخليل” سنة 901هـ، ويرى الباحث أن “هذه الأقوال والآراء والاهتمامات وغيرها ليست صحيحة ولا سليمة، وفيها عبث وخلط كثير، فالمادة المعرفية والمعلوماتية لاسم القدس في القصيدة العربية العمودية القديمة وفي غيرها من المصادر الأدبية والشعرية والفنية، أقدم من ذلك بكثير، لكن التلقي والقراءات والمتابعات في القصيد القديم لا تزال غير واضحة المعالم والفهوم عند كثير من المتلقين والمتابعين، وهذا البحث يقدم أدلته على بطلان هذه الأحكام والرؤى السابقة” (ص10).

يقوم البحث على تتبع القصيدة العمودية العربية القديمة عن القدس، وقد استطاع الباحث أن يجمع 60 قصيدة تحمل اسم القدس ومشتقات اسمها وتسمياتها، وما يقارب 40 شاعراً، أي جمع من بطون الكتب ما يقارب 2000 بيت من الشعر.

في القسم الأول من البحث يقف الباحث على “اسم القدس قبل القرن الأول الهجري، العصر الجاهلي”، ويرى الباحث أن هناك أياد قامت بالتحريف والتزييف واستعملت معاول الهدم في الظلام وبدلت وغيرت كثيراً من الأسماء والألقاب، وقد جعل هذه الأسماء والتسميات والمفردات في أربعة أنواع هي:

الأول: ما يحمل اسم القدس، والثاني: ما يتصل باسم القدس، ويتواشج معه ويرتبط به، والثالث: ما لا صلة له بالقدس المدينة المقدسة، والرابع: غير ما ذكرنا وفيه تحريف.

النوع الأول، وهو الذي حمل اسم القدس، واحتفظت به القصيدة العمودية، وظل له صحيحه ووثوقه وتوثيقه، وهذا الاسم هو أورسالم الذي يبدأ بالرقم الأول طبقاً للديباجة السابقة (ص27-28).

ورد اسم أورسالم في القصيدة الميمية للأعشى:

                وقد طفت للمال آفاقه          عُمان فحمص فأورسلم

وهو اسم من أسماء القدس، وهو الاسم الذي أطلقه العرب الكنعانيون القدامى على مدينتهم القدس القديمة، وهذا ما رجحه اللغوي الرّاوية ثعلب ونفى أن يكون اسماً عبرياً، وإنما هو عربي، كما ذكره رؤبة، وما في ثبت فتح الباري، وليس كما جاء في تحقيق المستشرق النمساوي الألماني (رودولف جاير) لديوان الأعشى، وقام بشرحه والتعليق عليه محمد محمد حسين “أوريشلم”، وهما من أصحاب الانتحال والتحريف الذين غيّروا هذا الاسم إلى لفظ أورشليم (ص32)، وفي الحقل الدلالي لهذا الاسم يشير إلى أنها دار السلام والسلم والسلامة، وينسجم مع جمال مدينة القدس ورمزيتها (ص32)، “وأورسلم “أورسالم” تسمية قديمةللقدس أطلقها عليها العرب الكنعانيون الذين حكموها وما حولها، وكانت عاصمتهم الحضارية، وذلك زمن ملكهم “ملكي صادق” (ص44).

النوع الثاني، وهو الذي يتصل باسم القدس، ويتواشج معه، ويرتبط به (ص34)، وقد ورد في سينية امرئ القيس:

                فأدركنه يأخذن بالسَّاق والنَّسَا         كما شَبْرَق الوِلدانُ ثوبَ المقدِّسِي

فالثوب المقدِّسِي هو ثوب الراهب المقدّسي نسبة للقدس، وسمة القداسة بمعنى البركة، وهذه السمة صفة لاسم مدينة القدس، وقد ورد في قصيدة الشاعر الجاهلي عمرو القضاعي “قدّس الرّهبان”، والفعل “قدّس” جذر لفعل الثلاثي من القدس، وهو القائل:

        وما قدّس الرّهبان في كلّ هيكل      أبيل الأبيلين المسيح بن مريما

كما ورد في قصيدة للشاعر أميّة بن أبي الصّلت “روح القدس” للدلالة على اسم القدس:

        أميناه روح القدس جبريل منهما     وميكال ذو الرّوح القويّ المسدّد

وقد ورد صدر البيت في ديوان أميّة: “أمينُ لوحي القدس جبريل فيهم”، وليس كما أثبته الباحث في هذا الموضع. وورد لفظ “قدّس” في قصيدة أخرى لأميّة:

        وقدّس فينا بحبّ الصّلاة      جميعاً وعلّم خطّ القلم

وورد في قصيدته اللامية لفظ “المقدّس” في حقلها الدلالي لما ذهب إليه الباحث في اسم القدس:

        ويفنى بعد جدّته ويبلى        سوى الباقي المقدّس ذي الجلال

النوع الثالث، وهو الذي لا صلة له بالقدس المدينة لكنه يحمل اسمها، ومن ذلك اسم قدس بضم القاف وسكون الدال وبلا أل التّعريف، فقد وردت هذه المفردة الاسم في قصائد الشعر الجاهلي كثيراً لكنها ليست القدس التي في فلسطين، وإنما هي من حيث الجغرافيا اسم جبل، أو قرية، أو واد، أو بلد، أو غير ذلك، في أماكن متفرقة بالجزيرة العربية منها: اليمن وتهامة والحجاز ونجد وما بين مكة والمدينة وبلاد غطفان وجهينة ومزينة وغيرها من القبائل، وقد ترددت تسمية قدس عند كثير من شعراء الجاهلية ومنهم (ص39): أبو ذؤيب الهذلي، مزرّد بن ضرار الذّبياني، زهير بن أبي سلمى، الأسود بن يعفر النّهشلي، خفاف بن ندبة السّلمي، كثيّر بن عبدالرحمن، حسان بن ثابت.

النوع الرابع، وهو غير ما ذكرنا من المحرّف الذي لا نعوّل عليه، ولا نقيم له شأناً ووزناً، ومنه كلمات: القدس والطّور المقدّس في قصيدة لاميّة للشاعر الجاهلي السموأل بن عادياء” (ص41-42). وقال عنها مرغليوث: “هذه القصيدة نظمها أحد الإسرائليين، وتناقله الرواة، فزادوا فيها، وحرّفوها”.

وتوصّل الباحث في خاتمة القسم الأول من البحث إلى رأي مفاده: “لقد تفاوت الشعراء الجاهليون وتباينوا في استخدام اسم القدس ومشتقاته وتسمياته في أساليبهم، ووظّفوا هذا الاسم ومفرداته في موضوعات قصائدهم، وفي فنيّاتها” (ص44). وخلص إلى نتيجة حيث قال: “ويظلّ الدّرس في أفق القصيد وفضائه للعصر الجاهلي بحاجة إلى استقصاء ومتابعات في جمع نماذج أخرى من القصائد، وإلى دراسات أرحب معرفة وأنفع معلومة في اسم القدس ودلالات التسمية وجمالياتها” (ص45).

في القسم الثاني من البحث يقف الباحث على “اسم القدس في القرن الأول الهجري (عصر صدر الإسلام والعصر الأموي)”، حيث نجد أن اسم القدس برز بشكل جلي في قصائد الشعراء، كذلك برز اسم المسجد الأقصى، كما ورد في رائية زياد بن حنظلة التميمي التي تؤرخ لمعركة أجنادين قرب مدينة الرّملة في فلسطين:

        ونحن تركنا أرطبون مطرّداً          إلى المسجد الأقصى وفيه حسور

وبرز اسم بيت المقدس جلياً في قصيدة مروان بن الحكم الأموي أرسلها إلى الشاعر الفرزدق يطلب إليه أن لا يهجو أحداً من أهلها ويأمره بمغادرة المدينة المنورة، واسم بيت المقدس دال على المسجد الأقصى:

        ودع المدينة إنها مرهوبة     واقصد لمكّة أو لبيت المقدس

ويورد الباحث بيت شعر من الشعر المنسوب إلى أبي بكر الصديق:

        عجبت لما أسرى الإله بعبده          من البيت ليلاً نحو بيت المقدّس

ولما للقدس من دلالة في ورد ما ينسب إليها في قصائد الشعراء، ومنهم حسان بن ثابت:

        وجبريل أمين الله فينا         وروح القدس ليس له كفاء

وفي قول كعب بن مالك الأنصاري:

        بنصر الله روح القدس فيها          وميكال فيا طيب الملاء

وقول عمرو بن شأس الأسدي:

        لمختبط منكم كأنّ ثيابه                نبشن لحول أو ثياب مقدّسي

“وفي العصر الأموي وخلافته الرشيدة، احتفل الخلفاء بمدينة القدس احتفالاً مبينا، وخلعوا عليها مظاهر التعظيم والتبجيل، واتخذوها مركزاً للخلافة، وداراً للعبادة، ومقرّاً للبيعة، ومحطة للإدارة والحكم، ومعسكراً للجيش، وقد أقاموا فيها لفترات طويلة.” (ص56). وكان للشعر الفرزدق نصيب فيما أورده على المسجد الأقصى:

        وبالمسجد الأقصى الإمام الذي اهتدى        به من قلوب الممترين ضلالها

ويرد اسم إيلياء، الاسم الروماني لمدينة القدس، في رائيته:

        لوى ابن أبي الرقراق عينه بعدما            دنا من أعالي إيلياء وغوَرا

وورد اسم إيلياء في قصيدته التائية:

        ولو أنّ طيراً كلّفت مثل سيره         إلى واسط من إيلياء لكلّت

وفي الفائية:

        وبيتان: بيت الله نحن ولاته           وبيت بأعلى إيلياء مشرّف

ومن أسماء القدس “الزيتون”، فقد ورد في لاميّة الفرزدق:

        فنصحي لكم قاد الهوى من بلاده     إلى منبت الزيتون من منبت النّخل

ومنبت النخل إشارة إلى مكة وفيها المسجد الحرام، وفي إشارة للقدس في قصيدة زفر بن الحارث الكلابي القيسي:

        إنّ السّماوة لا سماوة فالحقوا         بمنابت الزيتون وابني بحدل

وإشارة أخرى في قصيدة النّجاشي الحارثي:

        وفرّت ثقيف فرّق الله جمعها          إلى جبل الزيتون والقطران

وإشارة في قصيدة أبو صخر الهذلي يمدح عبدالملك بن مروان:

        من أرض قرى الزيتون مكة بعدما          غلبنا عليها واستحل حلالها

وقد ذكر عمر بن أبي ربيعة المسجد الأقصى المبارك في قصيدته الميمية:

        والمسجد الأقصى حوله       والطّور حلفة صادق لم يأثم

وورد ذكر المسجد الأقصى في قصيدة لأبي صخر الهذلي:

        والطّور والمسجد الأقصى وزائره           هل بعد ذا للوي الأيمان من قسم

وقال نصر بن سيّار الكناني:

        وبيت خليفة الرحمن فينا      وبيتاه المقدّس والحرام

وجاء ذكر الوادي المقدّس في قصيدة عدي بن الرّقاع العاملي دلالة على القدس:

        على منبر الوادي المقدّس كله       يروح بقول ثابت المتكلّم

كما جاء اسم القدس صريحاً في سينية العجاج بن رؤبة، وورد بيت المقدس:

        قد علم القدّوس مولى القدس         أن أبا العباس أولى نفس

        أهدي ثنائي من بعيد المحدس         يرجوك أقوام ببيت المقدس

وقد لاحظ الباحث في القسم الثالث “اسم القدس بعد القرن الأول الهجري: القرن الثاني الهجري من العصر العباسي” تراجع اهتمام القصيدة العمودية بالقدس في القرن الثاني الهجري، ويعود سبب ذلك إلى أن القدس لم تعد داراً للخلافة الإسلامية، ولا مركزاً يلتقي الشعر والشعراء على أرضه، وقد ورد اسم القدس وتسمياتها عند عدد قليل من الشعراء، فقد ذكرها أبو نواس “بيت المقدّس” في رائيته:

        وأصبحن قد فوّزن من نهر فطرس          وهنّ عن البيت المقدّس زور

وتكرر اسم “بيت المقدس” في سينية ياقوت الحموي:

        يا صاح إنّي قد حجّجـ         ـت وزرت بيت المقدس

وقد ورد اسم القدس وتسمياتها في القيدة العمودية القديمة على سبعٍ، مرتبة ترتيباً زمنياً: أورسلم – أورسالم، المسجد الأقصى، بيت المقدس، إيلياء، الزيتون، الوادي المقدّس، القدس. “وهذه الأسماء ومفرداتها وكلماتها تحمل المعنى المتفق دلاليّاً، بوساطة وشائج المبنى المختلف لغوياً، ولها فيها كل هذا الجمال الرائع الفائض في مفاهيم: القداسة والطهارة والبركة والسلامة والسلام والإسلام والعبادة والنظافة والشرف والمجد والسمو والعلو والسعادة والهدى والتقى”ص130. وتوقف الباحث في بحثه إلى نهاية القرن الثاني من العصر العباسي، وترك للدارسين والباحثين متابعة اسم القدس وتسمياتها في القرن الثالث من العصر العباسي، وما تلاه من القرون.

يرى الباحث في القسم الرابع من البحث “اسم القدس أبعاد الدلالات وجمالياتها” أن “الحقل الدلالي له تصورات عديدة، وإشارات كثيرة، وأنماط واسعة، وكلها تقدّم فائض المعنى وخفاياه، وتعرض الفكرة والرؤية والنظرة في أبيات القصيدة وما وراءها، وبذلك يكون لهذا الحقل أبعاده ومضامينه وروابطه وسردياته، ويكون له كذلك تشكيلاته وأبنيته وجمالياته، ولأسماء القدس في الحقل الدلالي أبعاد تتواشج وتترابط مع مضامين القصائد الشعرية وموضوعاتها ومقاصدها”ص137. وأهم هذه الأبعاد هي: البعد الديني، البعد السياسي، البعد الاجتماعي، البعد الثقافي، البعد الإنساني. كما أن لاسم القدس جماليات الحروف ومخارجها ودلالاتها وقيمها التعبيرية.

يُذكر أن كتاب الدكتور عبدالحميد المعيني الذي قام عليه البحث له قيمة توثيقية ومعرفية، فتتبع القصائد التي ذكرت اسم القدس وتسمياتها، وعددها ستون قصيدة، وشرح مناسباتها، وبيّن الصور الفنية، وقدّم معرفة ثقافية أدبية للأجيال كي يبقى اسم القدس حاضراً في الذاكرة العربية، وهو جهد محمود يُشكر عليه الباحث.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

·       الدكتور عبدالحميد المعيني، القدس والقصيدة العمودية القديمة: جدل الاسم وجمال الدلالة، دار الشروق للنشر والتوزيع، عمّان 2020.